النشرة البريدية

النشرة البريدية
 

انت حاليا فى:

الدكتور داهش الاديب المعجز

الدكتور داهش أَديبٌ لبنانيٌّ ومؤسِّسُ عقيدةٍ روحيَّة. اسمُه في الأَصل سليم موسى العشِّي (والكلمة تحريفُ أَليشي، نسبةً إلى أَليشع النبيِّ). يرجعُ نَسَبُ أُسرته إلى بلاد ما بين النهرَين. ارتحل والداه إلى الأَراضي المقدَّسة في فلسطين، فأَقاما أَوَّلاً في بيت لحم، ثمَّ انتقلا إلى القدس حيث وُلِد في الأَوَّل من حزيران عام 1909. وفي خلال عام 1911، قرَّ رأْيُ الوالدَين على العودة إلى ما بين النهرَين. لكنَّ ظروفاً قاهرةً أَلزمَتْهما الإقامةَ في بيروت حيث عمل الوالدُ في المطبعة الأَميركيَّة. وفي خلال عام 1918، ساقه الأَتراك إلى التجنيد الإجباريِّ. لكنَّه سرعان ما سُرِّح لإصابته بالسلِّ، فأُرسِل إلى مصحِّ ”هملن“ في الشبانيَّة (لبنان) حيث وافتْه المنيَّة في 25 كانون الأَوَّل 1920. في أَوائل عام 1921، أُرسِل الفتى سليم، هو وشقيقتُه الصغرى أَنتوانِت، إلى ميتمٍ في غزير (لبنان) أَوَّلاً، ثمَّ أُرسِل إلى ميتم الميَّة وميَّة في صيدا، فإلى مدرسةٍ في عين كارم (قرب مدينة القدس). إلاَّ أَنَّ إقامتَه فيها جميعاً لم تتعدَّ عاماً واحداً؛ وهذا مُجمَلُ نصيبه من التعلُّم المدرسيِّ. في خلال عام 1921، اكتسبَتْ والدتُه الجنسيَّة اللبنانيَّة. وما لبث أَن حازَها هو بعد حوالى عامَين (في 7/3/1923). ولقد تميَّزَتْ طفولتُه وشبابُه، ومن بعدُ حياتُه كلُّها، بخمسة أُمورٍ يحسن بنا الوقوف قليلاً عندها: * الأَمر الأَوَّل نَهَمُه الجارف إلى المعرفة. فمع أَنَّه حُرِم التعلُّم المدرسيَّ في حداثته، فإنَّ ذلك لم يصرفْه عن طلَبِ الثقافة على نفسه، ولا سيَّما الثقافة الأَدبيَّة والتاريخيَّة والنفسيَّة. كان أَوَّلاً يستعير الكتب من المكتبات العامَّة، ويُكبُّ على قراءتها ليلَ نهار. ثمَّ جعل يقتنيها بعد ذلك حتَّى بات يملكُ واحدةً من كُبريات المكتبات الخاصَّة في لبنان. * الأَمر الثاني موهبتُه الأَدبيَّة المبدِعة. فقد باشرَ تدوين أَفكاره وعواطفه في عام 1927، حتَّى إذا بلغ أَواسط عام 1933 كان قد فرغ من تأْليف كتابه الأَوَّل ”أَسرار الآلهة“ (في جزءين). وقبل تمام العام نفسه، أَنجز كتابَه الثاني ”قيثارة الآلهة“ (في جزءين أَيضاً)، وكتابَه الثالث ”ضجعة الموت“. ثمَّ توالَتْ تآليفُه حتَّى ناهزَتْ 150 مؤلَّفاً في أَنواعٍ أَدبيَّة مختلفة، كالأَدب الوجدانيِّ والرواية والقصَّة والسيرة الذاتيَّة وأَدب الرحلة وأَدب الخاطرة والأَدب الدينيّ. * الأَمرُ الثالث شَغَفُه الباكر بالفنِّ، وبخاصَّةٍ فنَّي الرسم والنحت. ومن أَخبار حداثته في هذا الشأْن أَنَّه كان ذات يومٍ يرافق والدتَه في مدينة القدس، فوقعَتْ عيناه على لوحةٍ فنِّيَّة معروضة في واجهة أَحد المتاجر، فوقف يتأَمَّلُها. ولمَّا فطنَتْ والدتُه إلى تخلُّفِه عنها، انثنَتْ تبحثُ عنه حتَّى إذا أَلْفَتْه مسمَّرَ العينَين باللوحة، نهرَتْه وجذَبَتْه من يده. ويُروى أَيضاً أَنَّه أُعجِبَ في حداثته بلوحةٍ لفنَّانٍ فرنسيٍّ مطبوعةٍ في إحدى المجلاَّت، فاقتطعها منها، واحتفظ بها زهاءَ عشرين عاماً، ثمَّ أَرسلها إلى الفنَّان نفسِه ليرسمَها له ثانيةً، ففعل. وقد باشر جمعَ اللوحات الفنِّيَّة منذ عام 1930 حتَّى تجمَّع له في عام 1976 ما يُنيف على أَلفَيْ صنيعٍ فنِّيٍّ. * الأَمر الرابع حصولُ ظاهراتٍ غيرِ مأْلوفةٍ على يدَيه منذ طفولته. وهو نفسُه لم يكنْ يعلم، أَوَّلَ الأَمر، مصدرَها. وقد اختلف الشهودُ في تعليلها: منهم مَن علَّلها بالقوى ”السِّحريَّة“، ومنهم مَن علَّلها بـ”التنويم المغنطيسيِّ“-وكان عهدَ ذاك شائعاً في العالَم-ومنهم مَن رأَى أَنَّ مصدرَها قوَّةٌ فائقة الطبيعة. وبسبب تلك الظاهرات أُطلِق عليه لقبُ ”داهش“، ثمَّ منحَه ”معهد ساج“ Sage Institute بباريس في 22 أَيَّار 1930 شهادةَ التخرُّج في العلوم النفسانيَّة، فاشتُهِر باسم ”الدكتور داهش“. وبسبب تلك الظاهرات أَيضاً التفَّ حوله نفرٌ من الذين مالتْ قلوبُهم إلى الأُمور الروحيَّة. * الأَمر الخامس حياة الرِّحلة الدائمة عنده. ففي خلال الثلاثينيَّات، قام بأَسفارٍ كثيرة إلى الأَقطار العربيَّة أَو الغربيَّة، كفرنسا ومصر والسودان وإيطاليا وسوريا والعراق؛ وقد دوَّن انطباعاتِه عنها في قِطَعٍ أَدبيَّة نُشِرتْ في مؤلَّفاته. ومنذ 2 آب 1969، باشر سلسلةَ رحلاتٍ عالَميَّة شملَتْ معظمَ أَقطار العالَم يدفعُه إلى ذلك أَمران: الأَوَّل، حبُّ الاطِّلاع على معالم البلاد العمرانيَّة والحضاريَّة والتاريخيَّة والطبيعيَّة والاجتماعيَّة... والثاني، البحث عن الصنائع الفنِّيَّة لابتياعها. وقد دوَّن الدكتور داهش مشاهداتِه وانطباعاتِه في سلسلةٍ تقع في 22 جزءًا أَطلق عليها اسم ”الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأَرضيَّة“. * * * في 23 آذار 1942، أَعلن الدكتور داهش في بيروت رسالةً روحيَّة دعا فيها الناسَ إلى الأَخذ بجوهر أَديانهم بعيداً عن قشورها أَو مظاهرها الوثنيَّة. كما دعاهم إلى الأُخوَّة الإنسانيَّة على تبايُن الأَعراق والقوميَّات، وإلى الإيمان بأَنَّهم-مَثَلُهم في ذلك مَثَلُ سائر المخلوقات-خاضعون لنظامٍ روحيٍّ عادل يقضي عليهم، تبعاً لاستحقاقهم، بالتقمُّص على الأَرض أَو في عوالمَ أُخرى ريثما يتسنَّى لهم الارتقاءُ الروحيُّ بإرادتهم، والاندماجُ، أَخيراً، في عالَم الروح. ولقد شهدَتْ تلك الدعوة إقبالاً شديداً من مختلف فئات الشعب اللبنانيِّ، فاعتنقها لفيفٌ من الأُدباء والأَطبَّاء والمحامين والوجهاء في عدادهم السيِّدة ماري حدَّاد، شقيقةُ زوجة بشاره الخوري، رئيسِ الجمهوريَّة اللبنانيَّة (1943-1952). لكنَّ أَنسباءَها-وهم من ذوي النفوذ في لبنان-لم يُرضِهم اعتناقُها الدعوة الجديدة، فحاولوا صرفَها عنها. ولمَّا فشلوا، باشروا حملةَ اضطهادٍ ضدَّ الدكتور داهش، وذلك، أَوَّلاً، في عهد الرئيس أَلفرِد نقَّاش (1941-1943، أَي قُبَيل وصول بشاره الخوري إلى سُدَّة الرئاسة)، لكنَّهم لم يُوفَّقوا إلى الإيقاع به بأَيِّ مأْخذٍ قانونيٍّ عليه. ولمَّا تسلَّم بشاره الخوري مقاليد السلطة، باشر حملةً منظَّمةً ضدَّه يؤيِّدُه فيها فئةٌ من رجال الدين المسيحيِّ. حاول بشاره الخوري، أَوَّلاً، النَّيل من الدكتور داهش بطريقةٍ قانونيَّة، فسنَّ قانوناً يمنع بموجبه ”مناجاة الأَرواح“، لكنَّ مجلسَ النوَّاب رفض التصديق عليه. عندئذٍ استعان بإحدى المنظَّمات السياسيَّة الطائفيَّة للاعتداء عليه... وسرعان ما أُلقِي القبضُ على الدكتور داهش بطريقةٍ غير مشروعة، وذلك في 28 آب 1944. فأُودِع السجن بلا مبرِّرٍ قانونيٍّ ولا محاكمة حتَّى 8 أَيلول 1944. وفي فجر اليوم اللاحق (9 أَيلول) أُبعِد إلى حلب (سوريا)، ثمَّ إلى إعزاز (على الحدود السوريَّة التركيَّة)، وذلك بعد أَن أَصدر بشاره الخوري مرسوماً يجرِّدُه فيه اعتسافاً من جنسيَّته اللبنانيَّة. ولم يكتفِ بذلك، بل سلَّط ضدَّه وسائلَ إعلام الدولة ليُسوِّد سمعتَه تجاه الرأْي العامِّ من غير أَن يسمحَ له بحقِّ الردِّ على مُفتَرياتها. كما كلَّف أَربعةَ صحافيِّين، فأَلَّفوا أَربعةَ كُتُبٍ ضدَّه شحنوها بالمُختَلَقات الكاذبة. أَمَّا الدكتور داهش فقد استطاع العودة سرًّا في ليل 9-10 تشرين الأَوَّل من حلب إلى بيروت حيث باشر في الخفاء خطَّةً منظَّمةً لاسترداد حقِّه المُغتصَب، فلجأَ بواسطة وكلائه المحامين إلى مجلس الشورى لإبطال المرسوم القاضي بتجريده من جنسيَّته. بيد أَنَّهم لم يُفلِحوا في الأَمر، وذلك لارتهان المجلس المذكور بإرادة بشاره الخوري. عندئذٍ عمدَ الدكتور داهش إلى شنِّ حملةٍ قلميَّة ضدَّ بشاره الخوري ومَن آزره في جريمته، فأَصدر 65 كتاباً أَسود و165 منشوراً يشرح فيها للرأْي العامِّ فظاعة الجريمة المرتكَبَة ضدَّه، ويفضح مفاسدَ عهد بشاره الخوري... وقد كان لتلك الكتب والمناشير السوداء أَثَرُها في تأْليب الرأْي العامِّ اللبنانيِّ على بشاره الخوري، وفي إطاحته من الحكم في أَيلول 1952. وما إن انقضَتْ أَشهرٌ قليلة على العهد الجديد حتَّى أَصدرَت الحكومةُ اللبنانيَّة في 6 شباط 1953 مرسوماً يقضي بإعادة الجنسيَّة اللبنانيَّة إلى الدكتور داهش، ثمَّ أَصدر رئيسُ الجمهوريَّة في 24 آذار من العام نفسه مرسوماً يُلغي مرسومَ الإبعاد. ولقد أَتاح للدكتور داهش احتجابُه القسريُّ في أَثناء مرحلة الاضطهاد أَن يباشر الإعدادَ لإقامةِ مُتحَفٍ دعاه ”المتحف الداهشيَّ“، فجعل يراسل الفنَّانين، فيبتاع لوحاتهم، أَو يطلب إليهم رسمَ لوحاتٍ يحدِّدُ لهم موضوعاتها وأَوصافها. وفي تلك المرحلة، أَيضاً، وضع كثيراً من مؤلَّفاته الأَدبيَّة. عاود الدكتور داهش، بعد استرداد جنسيَّته، استقبالَ زائريه، ونشرَ أَفكاره، سواءٌ في مؤلَّفاتٍ أَدبيَّة أَو مقابلاتٍ صحافيَّة... وفي خلال الستِّينيَّات والسبعينيَّات، لاقتْ أَفكارُه تجاوباً كبيراً في المجتمع اللبنانيِّ، فتجمَّع حوله مؤيِّدون ومُعجَبون كُثُر، وأُقيمت المحاضرات والندوات لدرس شخصيَّته ونشرِ عقيدته الروحيَّة. بُعَيد نشوب الحرب الأَهليَّة اللبنانيَّة عام 1975 غادر الدكتور داهش لبنان متنقِّلاً بين الولايات المتَّحدة الأَميركيَّة وأُوروبا. في أَواخر 1978، عاد إليه، فأَقام فيه قُرابةَ عامَين أَشرفَ فيهما على طبعِ كثيرٍ من مؤلَّفاته. ثمَّ عاودَ، بعد ذلك، تنقُّلَه بين الولايات المتَّحدة الأَميركيَّة وأُوروبا والهند. تُوفِّي الدكتور داهش في الولايات المتَّحدة الأَميركيَّة في 9 نيسان 1984.

 

 

قارن المنتجات

لديك أي عناصر للمقارنة.